في ليلةٍ مباركةٍ من عام 610 م وبينما كان المتحنِّث المتعبّد ﷺ معتكفاً يناجي ربَّه من فوق جبلٍ يطل على مكَّة وإذ بكلمةٍ يتلقّاها أمراً ربّانيّاً تنهي عزلته: "اقرأ!" بصدور هذا الأمر تحوَّل مجرى حياته ﷺ وحياة أترابه وحياة أجيال من بعده تحوّلاً تاريخياً أثرى العالم . بل إن الأمر بـ"اقرأ!" -بالذي يمليه من مراقبة النفس مع حسن العمل- هو الذي أهَلَّ بعصرٍ يُعَدُّ فريدٍاً من نوعه في الحضارة الإنسانية لما أناره علماً وأثمَرَه تعاوناً وعطاءً.
بل إنَّ فاتحة الوحي الإلهي قد أثبتت جدارتها بالفعل لما فيها من قدرةٍ على إحداث التغيير البنّاء في أي عصر.
فكيف فهم الجيل الأول هذا الأمر?
منذ أكثر من أربعة عشر قرناً تحرّكت مجموعةٌ قليلةٌ باسم ربّها وبـ 'اقرأ!' فغيّرت مسار التاريخ. أمَّا اليوم حين يبدو وكأن التاريخ ينعطِف نحو الأسوأ، فقد أصبح لِزاماً على جيلنا إثبات جدارته. والسؤال هنا هو: كيف فهم الجيل الأول الأمر بـ "اقرأ"؟
هذه هي المتطلبات الستة اللازمة لتنفيذ الأمر
يمكننا أن نقترب من إدراك ما كانت تعنيه كلمة "اقرأ" لدى أوائل المسلمين من خلال البحث في معجم المقاييس في اللغة لأحمد بن فارس بن زكريا (المتوفّى عام 395هـ /1004م).
إنّ هذا المعجم الذي يتميّز بالتركيز والإيجاز يُوَثِّق كل لفظٍ مع أصوله وبنوده، ويبيّن لنا أن كلمة 'اقرأ' هي فعل أمر من الفعل الثلاثي 'قَرَيَ'. ثم يبيّن أن لفعل "قري" ستة بنود رئيسية، نفهم منها أن كلمة ’اقرأ‘ -لو أدركنا مُجمَل معانيها كونها فعل أمر- تطالب المُخاطَب بأن:
يجمَع، ويحمِل، ويقصِد، ويشهَد، ويغتنم وقته/آنه، ثم يُكرِم الناس فيخدم بما لديه.هي ستة متطلبات لازمة لتلبية هذا الأمر، فـالأمر بـ"اقرأ!" من الأهمية بمكان حتى إنَّ مجرَّد سرد بنوده الستة -كما فعلنا للتو– يجعلنا نستشعر وقعه المؤثِّر في عالمٍ يتكون من المعلومات.وعلى الرغم من أن معنى ’اقرأ‘ قد يشتمل على مفهوم القِراءة من حيث جمع المقروء واستيعابه ومعالجة دلائله قصداً وشهادةً في آنٍ ثم الإكرام به إلى الناس، إلّا أن ذلك مجرّد طَرَف مما قد يفعله أحدنا في تلبية الأمر بأن يقرأ. حين نتتبّع تعريف الكلمة ندرك أن 'اقرأ' ليست عمَّا يُقرأ من مواضيع أو معلومات، بل إنها تتمحْوَر حول تصرّفنا إزاء تلك ’المقروءات‘ وما نستطيع إنجازه من خلالها، حيث يعمل منهاج ’اقرأ‘ من خلال بنوده الستة علی إنجاح ما نقوم به بَدْءاً بأفکارنا واحتياجاتنا ثم مقاصدنا وأفعالنا ثم علاقاتنا ونمائنا إلى إنجازاتنا وتحقيق ذواتنا.
في أيَّةِ لحظة من حياتنا، يمكن لبنود منهاج ’اقرأ‘ أن تعمل معاً وعلى العديد من المستويات فتبدّل حالنا نحو الأفضل. وأمّا إنْ تعذَّر ذلك علينا، فيمكننا حينئذٍ ببساطة أن نعزو خيبتنا إلى عدم استيفائنا لبنود هذا المنهاج المبارك.
إن استجابتنا للأمر بأن 'اقرأ!' سيكون لها الوقع الكبير في حياتنا، وهي التي ستحدد الإرث الذي نتركه من بعدنا.